ـ 1 ـ (المكان: أمام باب السلام في باحة المسجد النبوي عند الخروج من صلاة العشاء)
زحام كثيف عند عتبات باب المسجد النبوي، كانت الأنوار تسطع بشدة من المنائر، وكثير من الزوار يجلس هنا وهناك يتجاذبون أطراف الحديث، كان سعد يفكر في جمال هذا المنظر المألوف هنا في المدينة المنورة.
رأى أحدهم ينظر باتجاه المسجد ويتأمل، يسبح في لذات الروح، يحلق في سماء الإيمان، وآخر يصحب زوجته يحدثها عن أيام الرسول (صلى الله عليه وسلم) الأولى هنا في طيبة، كان سعد شخصيةً مرحةً تحب الناس وتعتز بالعيش في هذه المدينة.
كانت الأمنيات له أن يظل هنا حتى وفاته، لذلك لم يغادر المدينة حتى في دراسته الجامعية مع كونه قد تخرج من العلوم الطبيعية في الثانوية، نصحه الكثير من أقربائه ـوالمسئولون منهم على وجه الخصوص ـبالدراسة في الجامعات العلمية.
لكنه حادَ عن ذلك كله وألتمعتْ شخصيتُه العصامية في وقت مبكر فقرر مخالفة الجميع حتى أبرز من استشارهم في الموضوع وهو الشيخ سليمان الذي أصبح من أشهر المشائخ في عصره، عاد سعد ينظر ويتأمل هؤلاء الزوار، وبينما هو يمشي بجوار صديقه رائد سمع هاتفًا يقول :
- سعد .. !!
- (التفت سعد).. أهلًا ..
- أنت سعد أليس كذلك .. كيف حالك وأين تعمل الآن ..
- .. أهلًا .. يا دكتور كريم .. لازلت تتذكر طلابك؟!..
- دفعتكم بالذات لا يمكن أن تنسى ..
- أنا الآن أعمل في إحدى الجامعات .. (وأراد سعد لمز جامعة الدكتور)… والحمد لله أنكم لم تقبلوني في مدرستكم عفوًا أقصد جامعتكم ..
- قد لا تصدقني لقد رشحناك في قسم (الفقه) بالإجماع …
- إذن ما المعجزة التي حدثت وحولت القسم ..
- أحد الأعضاء أعترض ..
- هذا من فضل الله .. والقسم طبعًا يعمل بالديمقراطية!.. وهذا العضو يحمل حق الفيتو!!..
- لا أبدًا مدير الجامعة لا يحب المشاكل وأنت تعرف الأمور ..
- على كل حال أنا الآن أقول لك بصدق لو قبلت عندكم لمت ..
- تموت !!.
- أنت تعلم… فالفطريات منشرة لديكم في الجامعة والأمراض قد استفحلت ..
- الله المعين .. نراك على خير ..
- حياك الله يا دكتور .. نلتقي بإذن الله .. وسأرسل لك دعوة لحضور حفل زفافي قريبًا…
- مع السلامة ..
- تعرف يا رائد هذا الدكتور من أفضل المدرسين في الجامعة، له ذاكرة حديدة، يلقي دروسه من ذهنه، ولا تصدق قوة ذاكرته، يذكر الأحاديث بالتخريج، والأقوال منسوبة لأصحابها، بترتيب عجيب، وهو شديد على الطلاب، لكنه ذو قلب رقيق، وخلق لطيف، يكفي أنه رآني في المنام ..
- هههه .. وهل كل من يراك في المنام يكون قلبه لطيفًا ..
- طبعًا ..
- مشكلتك عندك ثقة زائدة في نفسك .. لكن تعلم… أنا معجب بتميزك وعصريتك ومتابعتك للجديد، كثير من طلاب الجامعة انشغلوا بالوظائف ـطبعًا من توظف منهم ـوالباقي نسي تخصصه ..
- شكرًا على الثناء .. (شكلك) اليوم تمر بلمسة إنسانية ..
- أبدًا .. صدقني أنا جاد..
- يا (رجل) .. كان يمكن أن يبدع الشخص أكثر لو أكمل في تخصصه الأول .. أنت تعرف تخصصي .. لكن عند التقديم للوظيفة اضطررت لتغيير تخصصي ..
- ليش.. أليس هناك وظيفة تناسب تخصصك؟ ..
- نعم قالوا تُقبل في قسم العقيدة .. قلت كلها قريبة من بعض ولا مشكلة وأبشرك الأمور تسير على ما يرام …
تهامس الاثنان وانشغلا في أحاديث كثيرة في طريقهما لمواقف سيارات المسجد النبوي، كانت الشخصيتان تمثلان مَنْ كَلَّفَ نفسه عبء الرقي بالحياة الاجتماعية .. أوقات طويلة تدور في النقاشات الاجتماعية .. والنقد للروتين في المؤسسات والإدارات ..
ويزداد وطيس النقاش إذا كانت الأحاديث تدور في منزل الصديق ثامر .. كان ثامر ممن قاسى ظلم الأنظمة الجامعية، وانضم لهذا الظلم قساوة الغربة التي عاشها في وقت مبكر من حياته بعد انتهائه من المرحلة الثانوية في مدينة الرياض، كانت شخصيته عاطفية إلى أبعد الحدود، وإلى نفس البعد يملك قلبًا طيبًا رقيقًا، لا يستطيع الأصدقاء الثلاثة الاستغناء عن جلسة السمر في بيت ثامر باستمرار، يحكي أحدهم قصةً طريفةً مرت به في أيام الدراسة الجامعية.
ويتذمر الآخر من قسوة الدكاترة، ويحكي سعد قصته بإمتاع منذ دراسته الثانوية وحتى تخرجه في الجامعة في فصول مترابطة شيقة، يصمت الجميع ليستمعوا لتلك التفاصيل المضحكة أحيانًا، والمؤلمة أحيانًا أكثر ..
في أحد أيام الربيع اجتمع الثلاثة في منزل ثامر وقرروا إنشاء (قروب) لهموم الصداقة الطويلة، وبسرعة فائقة قاموا بتوزيع المهام .. رائد يقوم بإنشاء المجموعة .. ثامر يحصر الإيميلات للمهتمين بالإصلاح الاجتماعي .. سعد يقوم بصياغة الرسائل البريدية وإرسالها بعد مراجعتها من الجميع ..
وبكثير من الثقة نظر الجميع لجدوى هذه المجموعة يقول ثامر بعاطفته المشتعلة: نريد أن نغير في هذا المجتمع .. نريد أن ينضم لمجموعتنا جميع طلاب الجامعات في المملكة ..
يقول رائد بتفائل أقل: المهم هو الاستمرار ..
يقول سعد بعجلة: المهم متى نبدأ العمل ..
قرر سعد أن يبدأ هذه المجموعة البريدية بخطاب إلى أساتذة الجامعة التي كان يدرس فيها ويرى ردود أفعالهم، وبناء عليه يقرر مسار الإيميلات التي يبعثها لهم ..
شاور الأصدقاء .. وافق الجميع .. لم يكن سعد بحاجة للكتابة من جديد فقد كان يسجل ملاحظاته منذ وقت مبكر .. ابتداءً من تخرجه في الثانوية وحتى لحظته التي خرج فيها لملاقاة أصدقائه في منزل ثامر ..
تعود سعد أن يؤرخ كل ما يمر به من أحداث، ويسجل ملحوظاته التي يحتفظ بها في ملف في جهازه المحمول، محمية برقم سري حفاظًا على سرية المعلومات ..
ومن بين تلك الأوراق صورٌ لخطابات حصل عليها أيام دراسته وقصاصات بخط أساتذة وطلاب جامعته تبين الحراك الثقافي الدائر في وقته .. لم تكن تلك الأوراق والقصاصات سهلة المنال ولم يطلع عليها أقرب أصدقائه له .. ولا حتى من يجلهم من أساتذته وأقاربه .. كانت أشبه ما تكون بكنز يحتفظ به للتاريخ .. وشاهدًا مخبئًا لكثير من الأخبار التي ينقلها عن تلك الأيام .. فهي كما قال ابن المقرب العيوني :
عَلى ذاكَ مِنّي شاهِدٌ غَيرُ غائِبٍ يُبَيِّنُ لِلأَقوامِ صِدقَ مَقالي
وكما قال الآخر :
يَكفيك مِن شاهد ما ذكرته أَمرٌ بِعَيني هَذهِ نَظرته
وكما قال ابن القيم :
هَذِي الشُّهُودُ فَهَل لَدَيكُم أنتُمُ مِن شَاهدٍ بِالنَّفيِ وَالنُّكرَانِ
موقع الدكتور: فهد مبارك الوهبي